المرسل
المرسِل الله سبحانه وتعالى:
قبل الخوض في تفاصيل الأدلّة الفلسفيّة والعلميّة الّتي تُثبت وجود خالق الكون، سوف نبدأ بمقدّمة موجزة نتناول فيها حقيقة الإيمان بالله تعالى وانحراف البشريّة عن ذلك.
فطرة الإيمان بالله تعالى:
يُعتبر إيمان الإنسان بالله تعالى وعبادته والارتباط به، عبارة عن نزعة أصيلة فطريّة راسخة في داخل الإنسان. ولم يكن هذا الإيمان وليد تناقض طبقيّ وصراع بين طبقة المستغِلّين للإنسانيّة وطبقة المستغَلّين المستضعَفين، لأنّ هذا الإيمان سبق في تأريخ البشريّة أيّ تناقضات من هذا القبيل، كما إنّه لم يكن - أيضاً - وليد مخاوف وشعور بالرعب اتجاه كوارث الطبيعة، ولو كان كذلك لأصبح أكثر النّاس تديّناً على مرّ التأريخ هم أشدّهم خوفاً وأسرعهم هلعاً.
إذاً، إنّ إيمان الإنسان بالله تعالى هو حالة منسجمة مع طبيعته الفطريّة، إلّا أنّه في فترة تالية تفلسف الإنسان، واستخلص من الأشياء الّتي تحوطه في الكون مفاهيم عامّة (كالوجود والعدم، والعلّة والمعلول... وغيرها)، فاتّجه إلى استخدامها وتطبيقها في مجال الاستدلال، على نحو يدعم ذلك الإيمان الأصيل بالله سبحانه بأسلوب فلسفيّ.
وحينما بدأت التجربة - القائمة على الحسّ والملاحظة - تبرز على صعيد البحث العلميّ كأداة للمعرفة البشريّة، أدرك المفكّرون أنّ تلك المفاهيم العامّة لم تعد تكفي بمفردها في اكتشاف قوانين الطبيعة وأسرارها، لذا آمنوا بأنّ الطريق إلى ذلك يمرّ عبر مرحلتين:
أولاهما: مرحلة الحسّ والتجربة، وتجميع معطياتها.
الأخرى: مرحلة عقليّة، حيث يتمّ فيها الاستنتاج والتنسيق بين تلك المعطيات، للخروج بتفسير عامّ مقبول.
من هنا اعتُبرت مسألة الإيمان بالله تعالى مسألة فلسفيّة - حسب التصنيف السائد لمسائل المعرفة البشريّة وقضاياها - بمعنى أنّها مسألة خارجة عن الوسيلة الوحيدة للمعرفة، وهي الحسّ، وحيث ينتهي الحسّ تنتهي معرفة الإنسان، بالتّالي فكلّ ما لا يكون محسوساً، ولا يُمكن تسليط التجربة عليه، بشكل أو بآخر، فلا يملك الإنسان وسيلة لإثباته.
بالنتيجة تمّ ضرب فكرة الإيمان بوجود خالق للكون وهو الله تعالى، ولكن لم يتمّ ذلك على يد العلماء التجريبيّين، بل على يد مجموعة من الفلاسفة من ذوي النزعة الفلسفيّة والمنطقيّة المتطرّفة، الّتي فسّرت الاتّجاه التجريبيّ الحسّيّ تفسيراً فلسفيّاً أو منطقيّاً خاطئاً. لذا تضاءل نفوذ أصحاب هذه النزعة بعد أنْ تجاوزهم ذوو الاتّجاه التجريبيّ والحسّيّ، ولم يعبأوا بهم في مسيرتهم نحو اكتشاف أسرارالكون وقوانينه، كما رفضهم روّاد الفلسفة المادّيّة الحديثة بزعامة (المادّيّين الجدليّين)، والّذين أعطوا لأنفسهم الحقّ في تجاوز حتّى نطاق الحسّ والتجربة، فقدّموا من خلال مقارنتهم للمعطيات العلميّة المختلفة تفسيراً شاملاً للكون ضمن إطار ديالكتيكيّ.
وعلى ضوء ذلك اتّفق كلٌّ من الاتّجاه المادّيّ الجدليّ (الديالكتيكيّ) والاتّجاه الإلهيّ على تجاوز النطاق الحسّيّ والتجريبيّ، الّذي دعت تلك النزعات الفلسفيّة المتطرّفة إلى التقيّد به، وأصبح من المعقول أنْ تتّخذ المرحلة البشريّة مرحلتين:
- مرحلة لتجميع معطيات الحسّ والتجربة.
- مرحلة لتفسيرها نظريّاً وعقليّاً.
ولكنّ الخلاف الّذي وقع بين المادّيّة الجدليّة والإلهيّة، هو على نوع التفسير الّذي تستنتجه عقليّاً في المرحلة الثانية من معطيات العِلم المتنوِّعة، فالمادّيّة تفترض تفسيراً ينفي وجود صانع حكيم، والإلهيّة ترى أنّ تفسير تلك المعطيات لا يُمكن أنْ يكون مقنعاً ما لم يشتمل على الإقرار بوجود صانع حكيم.
عود على بدء:
بناءً على ما سبق سنعرض فيما يلي نمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه، تتمثّل في كلٍّ منهما معطيات الحسّ والتجربة من ناحية، والتنظيم العقليّ من ناحية أخرى.
وسنبدأ فيما يلي بالدليل العلميّ الاستقرائيّ وتطبيقاته العمليّة، ومن ثُمّ نتطرّق للدليل الفلسفيّ.
النمط الأوّل - الاستدلال العلميّ لإثبات الله تعالى:
يُعرّف الدليل العلميّ: على أنّه كلّ دليل يعتمد الحسّ والتجربة ويتّبع النهج الاستقرائيّ، القائم على حساب الاحتمالات.
ولكنْ قبل أنْ نستعرض هذا الدليل وتطبيقاته المنهجيّة في إثبات وجود الله تعالى، لا بُدّ أنْ نشرح هذا المنهج الاستقرائيّ، ونُحدِّد خطواته بصورة مبسَّطة وموجزة، وبعد ذلك نُقيّمه، لنتعرّف إلى مدى إمكان الوثوق به، والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرُّف إلى الأشياء.
أ- تحديد المنهج الاستقرائيّ وخطواته:إنّ منهج الدليل الاستقرائيّ القائم على حساب الاحتمالات، يُمكن تلخيصه في الخطوات الخمس التّالية:
أوّلاً: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.
ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أنْ نجد فرضيّة صالحة وواقعيّة، لتفسير تلك الظواهر، وتبريرها جميعاً.
ثالثاً: نُلاحظ أنّ هذه الفرضيّة، إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع، ففرصة وجود تلك الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلة جدّ، بمعنى أنّه على افتراض عدم صحّة الفرضيّة، تكون نسبة احتمال وجودها ـ أي الظواهر ـ جميعاً إلى احتمال عدمها، أو عدم واحد منها على الأقلّ، ضئيلة جدّاً، كواحد في المائة أو واحد في الألف وهكذا.
رابعاً: نستخلص من ذلك أنّ الفرضيّة صادقة ويكون دليلنا على صدقها، وجود تلك الظواهر الّتي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.
خامساً: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر، للفرضيّة المطروحة في الخطوة الثانية، تتناسب عكسيّاً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضيّة، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالات اعتياديّة كثيرة درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضيّة1.
هذه هي الخطوات الّتي نتّبعها عادة في كلّ استدلال استقرائيّ يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواء في مجال الحياة الاعتياديّة، أو على صعيد البحث العلميّ، أو في مجال الاستدلال على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وما سيأتي من تطبيق هذه الخطوات سيوضّح لنا ذلك بدرجة كافية.
ب - تقييم المنهج الاستقرائيّ:تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به، لا يكون عن طريق تحليله منطقيّاً، واكتشاف الأسس المنطقيّة والرياضيّة الّتي يقوم عليه، لأنّ هذا يضطّرنا إلى الدخول في أشياء معقّدة.
بل نُقيّم المنهج الّذي سنتّبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم، في ضوء تطبيقاته الأخرى العمليّة، المعترف بها عموماً لكلّ إنسان سويّ، وسنرى حينها أنّ هذا المنهج هو نفس المنهج الّذي نعتمده في استدلالاتنا الّتي نثق بها كلّ الثقة في حياتنا اليوميّة الاعتياديّة، والّتي نذكر منها المثال التّالي:
أنت في حياتك الاعتياديّة، حين تتسلّم رسالة بالبريد، تعرف بمجرّد قراءتها أنّها من أخيك، لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك، لأنّك بذلك أنت تُمارس استدلالاً استقرائيّاً قائماً على حساب الاحتمال، ومهما كانت هذه القضيّة (وهي أنّ الرسالة من قبل أخيك) واضحة في نظرك، فهي في الحقيقة قضيّة استنتجتها بدليل استقرائيّ وفقاً للمنهج المتقدّم. وهذا ما سيتبّين لنا من تطبيق الخطوات الخمس التّالية للمنهج الاستقرائيّ:
الخطوة الأولى: تواجه فيها ظواهر عديدة، من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كُتبت فيها الحروف جميعاً، بنفس الطريقة الّتي يكتب بها أخوك، وبنفس أسلوب التعبير، والرسالة تتضمّن معلومات يعرفها أخوك عادة، وتتوافق مع حاجاته وآرائه.
هذه إذاً مجموعة الظواهر والمعطيات.
الخطوة الثانية: نطرح السؤال التّالي: هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقّاً، أو أنّها من شخص آخر يحمل نفس الاسم؟
وهنا نجد أنّ لديك فرضيّة صالحة وواقعيّة لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر.
والفرضيّة هي: أنْ تكون هذه الرسالة من أخيك حقّاً، فإذا كانت من أخيك، فمن الطبيعيّ أنْ تتوافر كلّ تلك المعطيات الّتي لاحظتها في المرحلة الأولى.
الخطوة الثالثة: نطرح السؤال التّالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي، بل كانت من شخص آخر، فما هي فرصة أنْ توجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص الّتي لاحظتها في الخطوة الأولى؟
إنّ هذه الفرضيّة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات، لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص، في هذه الحالة يجب أنْ نفترض أنّ شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويُشابه أخاك تماماً في أسلوب الكتابة، والتعبير، والمعلومات، والحاجات. وهذه مجموعة من الصدف يُعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلاً جدّاً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.
الخطوة الرابعة: تقول ما دام وجود كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل، إلاّ بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك، فمن المرجّح بدرجة كبيرة، بحكم وجود هذه الظواهر فعلاً، أنْ تكون الرسالة من أخيك.
الخطوة الخامسة: هنا نربط بين الترجيح الّذي قرّرته في الخطوة الرابعة، (ومؤدّاه أنّ الرسالة قد أُرسلت من أخيك)، وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرتها في الخطوة الثالثة، وهي ضآلة احتمال أنْ توجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة، بدون أنْ تكون من أخيك.
ويعني الربط بين هاتين الخطوتين: أنّ درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسيّاً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجة، كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعاً، وإذا لم تكن هناك قرائن عكسيّة تنفي أنْ تكون الرسالة من أخيك، فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأنّ الرسالة من أخيك.
إذاً إضافة إلى هذا المثال الّذي تقدّم، فإنّه يوجد العديد من الأمثلة الأخرى في مجال حياتنا اليوميّة أو في مجال البحث العلميّ، إلّا أنّ السؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو التّالي:
كيف نُطبّق هذا المنهج العلميّ في إثبات الصانع؟
الخطوة الأولى: نُلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة، وبين حاجة الإنسان ككائن حيّ، وتيسير الحياة له، على نحو نجد فيه أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر، يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها، ومن تلك الظواهر نذكر - على سبيل المثال - نموذجين، هما:
أ- تتلقّى الأرض من الشمس كمّيّة من الحرارة، تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة، وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة، لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ علميّاً أنّ المسافة الّتي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملاً مع كمّيّة الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن، لما وجدت حرارة بالشكل الّذي يُتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن، تضاعفت الحرارة إلى الدرجة الّتي لا تُطيقها الحياة.
ب - ونُلاحظ ظاهرة طبيعيّة أخرى تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن، لتنتج قدراً معيّناً من الأوكسجين المتوازن باستمرار، وهي أنّ الإنسان - والحيوان عموماً - حينما يتنفّس الهواء، ويستنشق الأوكسجين، يتلقّاه الدم، ويوزَّع في جميع أرجاء الجسم، ويُباشر هذا الأوكسجين حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون، الّذي يتسلّل إلى الرئتين، ثُمّ يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار. وهذا الغاز نفسه شرط ضروريّ لحياة كلّ نبات، والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون، يفصل الأوكسجين منه، ويلفظه ليعود نقيّاً صالحاً للاستنشاق من جديد، وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات، أمكن الاحتفاظ بكمّيّة من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر، وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائيّاً.
لذا قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
الخطوة الثانية: بناء على ما سبق من حالة التوافق المستمرّ بين الظواهر الطبيعيّة ومهمّة ضمان الحياة، يُمكن أنْ نُفسِّر ذلك عبر طرح الفرضيّة التّالية: أنْ نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون، قد استهدف أنْ يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة وسير مهمّتها، وذلك من خلال إيجاد توافق وتكامل بين الظواهر الطبيعيّة في هذا الكون الواسع.
الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضيّة الصانع الحكيم ثابتة في الواقع، فما هو مدى احتمال أنْ توجد كلّ تلك التوافقات، بين الظواهر الطبيعيّة ومهمّة تيسير الحياة دون أنْ يكون هناك هدف مقصود؟
من الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أنْ تكون الرسالة المقدّمة إليك - في المثال السابق - من شخص آخر غير أخيك، ولكنّه يُشابهه في كلّ الصفات بعيداً جدّ، لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل، بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أنْ تكون هذه الأرض الّتي نعيش عليها، بكلِّ ما تتضمّنه، من صنع مادّة غير هادفة ولكنّها تُشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات؟
الخطوة الرابعة: ترجّح بدرجة لا يشوبها الشكّ أنْ تكون الفرضيّة الّتي طرحتها في الخطوة الثانيّة صحيحة، أيّ أنّ هناك صانعاً حكيماً.
الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلّما ازداد عدد الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها فيه - كما عرفنا سابقاً - فمن الطبيعيّ أنْ يكون هذا الاحتمال ضئيلاً، بدرجة لا تُماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علميّ، لأنّ عدد الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروريّ أنْ يزول.
وهكذا نصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أنّ للكون صانعاً حكيماً، بدلالة كلّ ما في هذا الكون من آيات الاتّساق والتدبير: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾3.
﴿إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾4.
النمط الثاني: الاستدلال الفلسفيّ لإثبات اللّه تعالى:
يُعرَّف الدليل الفلسفيّ بأنّه: الدليل الّذي يعتمد لإثبات واقع موضوعيّ في العالَم الخارجيّ على معلومات عقليّة - أي المعلومات العقليّة الّتي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة - إضافة إلى اعتماده على مبادىء الدليل الرياضيّ 5 الّذي يُستعمل في مجال الرياضيّات البحتة، ويقوم على مبدأ أساس وهو مبدأ عدم التناقض6.
وهذا لا يعني بالضرورة أنّ الدليل الفلسفيّ لا يعتمد على معلومات حسّيّة أو استقرائيّة، وإنّما يعني أنّه لا يكتفي بها، بل يعتمد إلى جانب هذا أو بصورة مستقلّة عن ذلك على معلومات عقليّة أخرى في إطار الاستدلال على القضيّة الّتي يُريد إثباتها، لذا يختلف الدليل الفلسفيّ عن الدليل العلميّ - السابق الذكر - في تعامله مع معلومات عقليّة لا تدخل في نطاق مبادىء الدليل الرياضيّ.
ولكنّ السؤال الّذي يطرح نفسه: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقليّة بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علميّ؟
والجواب عن ذلك بالإيجاب، فإنّ هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع (كمبدأ عدم التناقض)، القائل: إنّ (أ) هي (أ) ولا يُمكن أنْ لا تكون (أ). هذا المبدأ تقوم عليه كلّ الرياضيّات البحتة، ويقوم إيماننا به على أساس عقليّ، وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء العلميّ.
وبكلمة أخرى: إنّ رفض الدليل الفلسفيّ لمجرّد أنّه يعتمد على معلومات عقليّة لا ترتبط بالتجربة والاستقراء، يعني رفض الدليل الرياضيّ أيض، لأنّه يعتمد على مبدأ عدم التناقض الّذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء7.
القضايا الثلاث المكوّنة للدليل الفلسفيّ:
يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التّالية:
أوّلاً: إنّ كلّ حادثة لها سبب، وهذه قضيّة يُدركها الإنسان فطريّاً، ويؤكّدها الاستقراء العلميّ.
ثانياً: كلّما وُجدت درجات متفاوتة من شيء ما، بعضها أقوى وأكمل من بعض، فليس بالإمكان أنْ تكون الدرجة الأقلّ كمالاً والأدنى محتوى، هي السبب في وجود الدرجة الأعلى، فالحرارة (مثلاً) لها درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يُمكن أنْ تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منه، لأنّ كلَّ درجة أعلى تُمثِّل زيادة نوعيّة وكيفيّة على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعيّة لا يُمكن أنْ يمنحها من لا يملكها.
ثالثاً: إنّ اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتطوّرها يعني تنوّع أشكاله كيفيّاً مع ارتفاع كلّ درجة، فمثلاً: إنّ المادّة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالاً مختلفة في درجة تطوّرها، فالجزئيّ من المادّة الّذي لا حياة فيه ولا إحساس يُمثِّل شكلاً من أشكال الوجود للمادّة، بينما نطفة الحياة الّتي تُساهم في تكوين النبات والحيوان تُمثِّل شكلاً أرفع لوجود المادّة، هذا في حين أنّ (الإنسان) الكائن الحيّ والحسّاس، يُعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.
أمام هذه القضايا الثلاث للدليل الفلسفيّ يُطرح سؤالان:
قبل الخوض في تفاصيل الأدلّة الفلسفيّة والعلميّة الّتي تُثبت وجود خالق الكون، سوف نبدأ بمقدّمة موجزة نتناول فيها حقيقة الإيمان بالله تعالى وانحراف البشريّة عن ذلك.
فطرة الإيمان بالله تعالى:
يُعتبر إيمان الإنسان بالله تعالى وعبادته والارتباط به، عبارة عن نزعة أصيلة فطريّة راسخة في داخل الإنسان. ولم يكن هذا الإيمان وليد تناقض طبقيّ وصراع بين طبقة المستغِلّين للإنسانيّة وطبقة المستغَلّين المستضعَفين، لأنّ هذا الإيمان سبق في تأريخ البشريّة أيّ تناقضات من هذا القبيل، كما إنّه لم يكن - أيضاً - وليد مخاوف وشعور بالرعب اتجاه كوارث الطبيعة، ولو كان كذلك لأصبح أكثر النّاس تديّناً على مرّ التأريخ هم أشدّهم خوفاً وأسرعهم هلعاً.
إذاً، إنّ إيمان الإنسان بالله تعالى هو حالة منسجمة مع طبيعته الفطريّة، إلّا أنّه في فترة تالية تفلسف الإنسان، واستخلص من الأشياء الّتي تحوطه في الكون مفاهيم عامّة (كالوجود والعدم، والعلّة والمعلول... وغيرها)، فاتّجه إلى استخدامها وتطبيقها في مجال الاستدلال، على نحو يدعم ذلك الإيمان الأصيل بالله سبحانه بأسلوب فلسفيّ.
وحينما بدأت التجربة - القائمة على الحسّ والملاحظة - تبرز على صعيد البحث العلميّ كأداة للمعرفة البشريّة، أدرك المفكّرون أنّ تلك المفاهيم العامّة لم تعد تكفي بمفردها في اكتشاف قوانين الطبيعة وأسرارها، لذا آمنوا بأنّ الطريق إلى ذلك يمرّ عبر مرحلتين:
أولاهما: مرحلة الحسّ والتجربة، وتجميع معطياتها.
الأخرى: مرحلة عقليّة، حيث يتمّ فيها الاستنتاج والتنسيق بين تلك المعطيات، للخروج بتفسير عامّ مقبول.
من هنا اعتُبرت مسألة الإيمان بالله تعالى مسألة فلسفيّة - حسب التصنيف السائد لمسائل المعرفة البشريّة وقضاياها - بمعنى أنّها مسألة خارجة عن الوسيلة الوحيدة للمعرفة، وهي الحسّ، وحيث ينتهي الحسّ تنتهي معرفة الإنسان، بالتّالي فكلّ ما لا يكون محسوساً، ولا يُمكن تسليط التجربة عليه، بشكل أو بآخر، فلا يملك الإنسان وسيلة لإثباته.
بالنتيجة تمّ ضرب فكرة الإيمان بوجود خالق للكون وهو الله تعالى، ولكن لم يتمّ ذلك على يد العلماء التجريبيّين، بل على يد مجموعة من الفلاسفة من ذوي النزعة الفلسفيّة والمنطقيّة المتطرّفة، الّتي فسّرت الاتّجاه التجريبيّ الحسّيّ تفسيراً فلسفيّاً أو منطقيّاً خاطئاً. لذا تضاءل نفوذ أصحاب هذه النزعة بعد أنْ تجاوزهم ذوو الاتّجاه التجريبيّ والحسّيّ، ولم يعبأوا بهم في مسيرتهم نحو اكتشاف أسرارالكون وقوانينه، كما رفضهم روّاد الفلسفة المادّيّة الحديثة بزعامة (المادّيّين الجدليّين)، والّذين أعطوا لأنفسهم الحقّ في تجاوز حتّى نطاق الحسّ والتجربة، فقدّموا من خلال مقارنتهم للمعطيات العلميّة المختلفة تفسيراً شاملاً للكون ضمن إطار ديالكتيكيّ.
وعلى ضوء ذلك اتّفق كلٌّ من الاتّجاه المادّيّ الجدليّ (الديالكتيكيّ) والاتّجاه الإلهيّ على تجاوز النطاق الحسّيّ والتجريبيّ، الّذي دعت تلك النزعات الفلسفيّة المتطرّفة إلى التقيّد به، وأصبح من المعقول أنْ تتّخذ المرحلة البشريّة مرحلتين:
- مرحلة لتجميع معطيات الحسّ والتجربة.
- مرحلة لتفسيرها نظريّاً وعقليّاً.
ولكنّ الخلاف الّذي وقع بين المادّيّة الجدليّة والإلهيّة، هو على نوع التفسير الّذي تستنتجه عقليّاً في المرحلة الثانية من معطيات العِلم المتنوِّعة، فالمادّيّة تفترض تفسيراً ينفي وجود صانع حكيم، والإلهيّة ترى أنّ تفسير تلك المعطيات لا يُمكن أنْ يكون مقنعاً ما لم يشتمل على الإقرار بوجود صانع حكيم.
عود على بدء:
بناءً على ما سبق سنعرض فيما يلي نمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه، تتمثّل في كلٍّ منهما معطيات الحسّ والتجربة من ناحية، والتنظيم العقليّ من ناحية أخرى.
وسنبدأ فيما يلي بالدليل العلميّ الاستقرائيّ وتطبيقاته العمليّة، ومن ثُمّ نتطرّق للدليل الفلسفيّ.
النمط الأوّل - الاستدلال العلميّ لإثبات الله تعالى:
يُعرّف الدليل العلميّ: على أنّه كلّ دليل يعتمد الحسّ والتجربة ويتّبع النهج الاستقرائيّ، القائم على حساب الاحتمالات.
ولكنْ قبل أنْ نستعرض هذا الدليل وتطبيقاته المنهجيّة في إثبات وجود الله تعالى، لا بُدّ أنْ نشرح هذا المنهج الاستقرائيّ، ونُحدِّد خطواته بصورة مبسَّطة وموجزة، وبعد ذلك نُقيّمه، لنتعرّف إلى مدى إمكان الوثوق به، والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرُّف إلى الأشياء.
أ- تحديد المنهج الاستقرائيّ وخطواته:إنّ منهج الدليل الاستقرائيّ القائم على حساب الاحتمالات، يُمكن تلخيصه في الخطوات الخمس التّالية:
أوّلاً: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.
ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أنْ نجد فرضيّة صالحة وواقعيّة، لتفسير تلك الظواهر، وتبريرها جميعاً.
ثالثاً: نُلاحظ أنّ هذه الفرضيّة، إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع، ففرصة وجود تلك الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلة جدّ، بمعنى أنّه على افتراض عدم صحّة الفرضيّة، تكون نسبة احتمال وجودها ـ أي الظواهر ـ جميعاً إلى احتمال عدمها، أو عدم واحد منها على الأقلّ، ضئيلة جدّاً، كواحد في المائة أو واحد في الألف وهكذا.
رابعاً: نستخلص من ذلك أنّ الفرضيّة صادقة ويكون دليلنا على صدقها، وجود تلك الظواهر الّتي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.
خامساً: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر، للفرضيّة المطروحة في الخطوة الثانية، تتناسب عكسيّاً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضيّة، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالات اعتياديّة كثيرة درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضيّة1.
هذه هي الخطوات الّتي نتّبعها عادة في كلّ استدلال استقرائيّ يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواء في مجال الحياة الاعتياديّة، أو على صعيد البحث العلميّ، أو في مجال الاستدلال على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وما سيأتي من تطبيق هذه الخطوات سيوضّح لنا ذلك بدرجة كافية.
ب - تقييم المنهج الاستقرائيّ:تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به، لا يكون عن طريق تحليله منطقيّاً، واكتشاف الأسس المنطقيّة والرياضيّة الّتي يقوم عليه، لأنّ هذا يضطّرنا إلى الدخول في أشياء معقّدة.
بل نُقيّم المنهج الّذي سنتّبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم، في ضوء تطبيقاته الأخرى العمليّة، المعترف بها عموماً لكلّ إنسان سويّ، وسنرى حينها أنّ هذا المنهج هو نفس المنهج الّذي نعتمده في استدلالاتنا الّتي نثق بها كلّ الثقة في حياتنا اليوميّة الاعتياديّة، والّتي نذكر منها المثال التّالي:
أنت في حياتك الاعتياديّة، حين تتسلّم رسالة بالبريد، تعرف بمجرّد قراءتها أنّها من أخيك، لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك، لأنّك بذلك أنت تُمارس استدلالاً استقرائيّاً قائماً على حساب الاحتمال، ومهما كانت هذه القضيّة (وهي أنّ الرسالة من قبل أخيك) واضحة في نظرك، فهي في الحقيقة قضيّة استنتجتها بدليل استقرائيّ وفقاً للمنهج المتقدّم. وهذا ما سيتبّين لنا من تطبيق الخطوات الخمس التّالية للمنهج الاستقرائيّ:
الخطوة الأولى: تواجه فيها ظواهر عديدة، من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كُتبت فيها الحروف جميعاً، بنفس الطريقة الّتي يكتب بها أخوك، وبنفس أسلوب التعبير، والرسالة تتضمّن معلومات يعرفها أخوك عادة، وتتوافق مع حاجاته وآرائه.
هذه إذاً مجموعة الظواهر والمعطيات.
الخطوة الثانية: نطرح السؤال التّالي: هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقّاً، أو أنّها من شخص آخر يحمل نفس الاسم؟
وهنا نجد أنّ لديك فرضيّة صالحة وواقعيّة لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر.
والفرضيّة هي: أنْ تكون هذه الرسالة من أخيك حقّاً، فإذا كانت من أخيك، فمن الطبيعيّ أنْ تتوافر كلّ تلك المعطيات الّتي لاحظتها في المرحلة الأولى.
الخطوة الثالثة: نطرح السؤال التّالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي، بل كانت من شخص آخر، فما هي فرصة أنْ توجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص الّتي لاحظتها في الخطوة الأولى؟
إنّ هذه الفرضيّة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات، لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص، في هذه الحالة يجب أنْ نفترض أنّ شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويُشابه أخاك تماماً في أسلوب الكتابة، والتعبير، والمعلومات، والحاجات. وهذه مجموعة من الصدف يُعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلاً جدّاً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.
الخطوة الرابعة: تقول ما دام وجود كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل، إلاّ بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك، فمن المرجّح بدرجة كبيرة، بحكم وجود هذه الظواهر فعلاً، أنْ تكون الرسالة من أخيك.
الخطوة الخامسة: هنا نربط بين الترجيح الّذي قرّرته في الخطوة الرابعة، (ومؤدّاه أنّ الرسالة قد أُرسلت من أخيك)، وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرتها في الخطوة الثالثة، وهي ضآلة احتمال أنْ توجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة، بدون أنْ تكون من أخيك.
ويعني الربط بين هاتين الخطوتين: أنّ درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسيّاً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجة، كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعاً، وإذا لم تكن هناك قرائن عكسيّة تنفي أنْ تكون الرسالة من أخيك، فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأنّ الرسالة من أخيك.
إذاً إضافة إلى هذا المثال الّذي تقدّم، فإنّه يوجد العديد من الأمثلة الأخرى في مجال حياتنا اليوميّة أو في مجال البحث العلميّ، إلّا أنّ السؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو التّالي:
كيف نُطبّق هذا المنهج العلميّ في إثبات الصانع؟
الخطوة الأولى: نُلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة، وبين حاجة الإنسان ككائن حيّ، وتيسير الحياة له، على نحو نجد فيه أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر، يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها، ومن تلك الظواهر نذكر - على سبيل المثال - نموذجين، هما:
أ- تتلقّى الأرض من الشمس كمّيّة من الحرارة، تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة، وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة، لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ علميّاً أنّ المسافة الّتي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملاً مع كمّيّة الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن، لما وجدت حرارة بالشكل الّذي يُتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن، تضاعفت الحرارة إلى الدرجة الّتي لا تُطيقها الحياة.
ب - ونُلاحظ ظاهرة طبيعيّة أخرى تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن، لتنتج قدراً معيّناً من الأوكسجين المتوازن باستمرار، وهي أنّ الإنسان - والحيوان عموماً - حينما يتنفّس الهواء، ويستنشق الأوكسجين، يتلقّاه الدم، ويوزَّع في جميع أرجاء الجسم، ويُباشر هذا الأوكسجين حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون، الّذي يتسلّل إلى الرئتين، ثُمّ يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار. وهذا الغاز نفسه شرط ضروريّ لحياة كلّ نبات، والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون، يفصل الأوكسجين منه، ويلفظه ليعود نقيّاً صالحاً للاستنشاق من جديد، وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات، أمكن الاحتفاظ بكمّيّة من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر، وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائيّاً.
لذا قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
الخطوة الثانية: بناء على ما سبق من حالة التوافق المستمرّ بين الظواهر الطبيعيّة ومهمّة ضمان الحياة، يُمكن أنْ نُفسِّر ذلك عبر طرح الفرضيّة التّالية: أنْ نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون، قد استهدف أنْ يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة وسير مهمّتها، وذلك من خلال إيجاد توافق وتكامل بين الظواهر الطبيعيّة في هذا الكون الواسع.
الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضيّة الصانع الحكيم ثابتة في الواقع، فما هو مدى احتمال أنْ توجد كلّ تلك التوافقات، بين الظواهر الطبيعيّة ومهمّة تيسير الحياة دون أنْ يكون هناك هدف مقصود؟
من الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أنْ تكون الرسالة المقدّمة إليك - في المثال السابق - من شخص آخر غير أخيك، ولكنّه يُشابهه في كلّ الصفات بعيداً جدّ، لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل، بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أنْ تكون هذه الأرض الّتي نعيش عليها، بكلِّ ما تتضمّنه، من صنع مادّة غير هادفة ولكنّها تُشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات؟
الخطوة الرابعة: ترجّح بدرجة لا يشوبها الشكّ أنْ تكون الفرضيّة الّتي طرحتها في الخطوة الثانيّة صحيحة، أيّ أنّ هناك صانعاً حكيماً.
الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلّما ازداد عدد الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها فيه - كما عرفنا سابقاً - فمن الطبيعيّ أنْ يكون هذا الاحتمال ضئيلاً، بدرجة لا تُماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علميّ، لأنّ عدد الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروريّ أنْ يزول.
وهكذا نصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أنّ للكون صانعاً حكيماً، بدلالة كلّ ما في هذا الكون من آيات الاتّساق والتدبير: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾3.
﴿إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾4.
النمط الثاني: الاستدلال الفلسفيّ لإثبات اللّه تعالى:
يُعرَّف الدليل الفلسفيّ بأنّه: الدليل الّذي يعتمد لإثبات واقع موضوعيّ في العالَم الخارجيّ على معلومات عقليّة - أي المعلومات العقليّة الّتي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة - إضافة إلى اعتماده على مبادىء الدليل الرياضيّ 5 الّذي يُستعمل في مجال الرياضيّات البحتة، ويقوم على مبدأ أساس وهو مبدأ عدم التناقض6.
وهذا لا يعني بالضرورة أنّ الدليل الفلسفيّ لا يعتمد على معلومات حسّيّة أو استقرائيّة، وإنّما يعني أنّه لا يكتفي بها، بل يعتمد إلى جانب هذا أو بصورة مستقلّة عن ذلك على معلومات عقليّة أخرى في إطار الاستدلال على القضيّة الّتي يُريد إثباتها، لذا يختلف الدليل الفلسفيّ عن الدليل العلميّ - السابق الذكر - في تعامله مع معلومات عقليّة لا تدخل في نطاق مبادىء الدليل الرياضيّ.
ولكنّ السؤال الّذي يطرح نفسه: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقليّة بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علميّ؟
والجواب عن ذلك بالإيجاب، فإنّ هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع (كمبدأ عدم التناقض)، القائل: إنّ (أ) هي (أ) ولا يُمكن أنْ لا تكون (أ). هذا المبدأ تقوم عليه كلّ الرياضيّات البحتة، ويقوم إيماننا به على أساس عقليّ، وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء العلميّ.
وبكلمة أخرى: إنّ رفض الدليل الفلسفيّ لمجرّد أنّه يعتمد على معلومات عقليّة لا ترتبط بالتجربة والاستقراء، يعني رفض الدليل الرياضيّ أيض، لأنّه يعتمد على مبدأ عدم التناقض الّذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء7.
القضايا الثلاث المكوّنة للدليل الفلسفيّ:
يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التّالية:
أوّلاً: إنّ كلّ حادثة لها سبب، وهذه قضيّة يُدركها الإنسان فطريّاً، ويؤكّدها الاستقراء العلميّ.
ثانياً: كلّما وُجدت درجات متفاوتة من شيء ما، بعضها أقوى وأكمل من بعض، فليس بالإمكان أنْ تكون الدرجة الأقلّ كمالاً والأدنى محتوى، هي السبب في وجود الدرجة الأعلى، فالحرارة (مثلاً) لها درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يُمكن أنْ تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منه، لأنّ كلَّ درجة أعلى تُمثِّل زيادة نوعيّة وكيفيّة على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعيّة لا يُمكن أنْ يمنحها من لا يملكها.
ثالثاً: إنّ اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتطوّرها يعني تنوّع أشكاله كيفيّاً مع ارتفاع كلّ درجة، فمثلاً: إنّ المادّة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالاً مختلفة في درجة تطوّرها، فالجزئيّ من المادّة الّذي لا حياة فيه ولا إحساس يُمثِّل شكلاً من أشكال الوجود للمادّة، بينما نطفة الحياة الّتي تُساهم في تكوين النبات والحيوان تُمثِّل شكلاً أرفع لوجود المادّة، هذا في حين أنّ (الإنسان) الكائن الحيّ والحسّاس، يُعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.
أمام هذه القضايا الثلاث للدليل الفلسفيّ يُطرح سؤالان:
السؤال الأول: هل الفارق بين التراب والإنسان - الّذي تكوّن منه - عدديّ فقط أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطوّر والتكامل، كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد؟
ينطلق الفكر المادّيّ – الميكانيكيّ، في جوابه عن هذا السؤال، من نظرته الميكانيكيّة في تفسير الكون، والقائلة بأنّ العالَم الخارجيّ يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة، تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة، أي أنّ عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها لبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادّة، بالتّالي لا يحصل تطوّر جديد في المادّة، فالمادّة لا تنمو في وجودها، ولا تترقّى في تطوّرها، وإنّما تتجمّع وتتوزّع بطرق وأشكال مختلفة.
ولكنْ بالرغم من استناد ذلك الجواب إلى علم الميكانيك، وما قدّمه من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكيّة وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتياديّة على أساسها، إلّا أنّ استمرار تطوّر هذا العِلم في مجالات الحياة المختلفة أثبت بطلان الجواب المادّيّ الميكانيكيّ وتفسيره لكلّ حركات الكون تفسيراً ميكانيكيّاً. بل أكّد العِلم ما أدركه الإنسان بفطرته - منذ زمن بعيد - من أنّ تنوّع أشكال المادّة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى آخر، بل إلى ألوان من التطوّر النوعيّ والكيفيّ.
إذاً، فالجواب الإسلاميّ عن السؤال، هو ما يتطابق مع فطرة الإنسان، الّتي تؤمن بأنّ الأشكال المختلفة في الوجود هي عبارة عن درجات ومراحل من التكامل. فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادّة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّيّة وإنّما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجة من حياة النبات وهكذا.
السؤال الثاني: إذا كان الفارق (أو الاختلاف) بين أشكال الوجود في هذا الكون هو فارق نوعيّ وكيفيّ، بما يُعبّر عن وجود تطوّر ونموّ وزيادة في وجود هذه الأشكال، فمن أين جاءت هذه الزيادة الجديدة - في المادّة - وكيف ظهرت ما دام أنّ لكلِّ حادثة سبباً كما تقدّم؟
توجد بهذا الصدد ثلاث إجابات:
الأولى: أنّ هذه الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من المادّة نفسه، أيّ أنّ الشكل الأدنى من وجود المادّة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجة. ولكنّ هذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية من قضايا الدليل الفلسفيّ، الّذي يُقرِّر أنّ الشكل الأدنى درجة لا يُمكن أنْ يكون سبباً لما هو أكبر منه درجة، وأغنى منه محتوى من أشكال الوجود.
الثانية: أنّ هذه الإجابة ذهبت - أيضاً - إلى أنّ الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من المادّة نفسها، ولكنْ لا كما هي في الإجابة الأولى من الأدنى إلى الأعلى بما يتعارض مع القضيّة الثانية من الدليل الفلسفيّ، بل إنّ ذلك يتمّ على أساس أنّ كلَّ أشكال التطوّر ومحتوياته موجودة في المادّة منذ البدء، فمثلاً: الدجاجة موجودة في البيضة في وقت واحد، ويعني ذلك أنّ كلَّ شيء يحتوي على نقيضه - ضدّه - في أحشائه وهو في صراع مستمرّ مع هذا النقيض، وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخليّ، حتّى يبرز ويُحقّق تحوّلاً في المادّة، كالبيضة تنفجر في لحظة معيّنة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها، وعن هذا الطريق تتكامل المادّة باستمرار.
ولكنّ السؤال الّذي يرد هنا: ماذا يُقصد بالضبط من أنّ الشيء يحتوي على نقيضه أو ضدّه؟ وبالتحديد أيّ المعاني التّالية هو المقصود؟
أ- فهل يُراد بذلك أنّ الميّت(أي البيضة) يلد الحيّ (أي فرخ الدجاجة) ويسبغ عليه الحياة، وهذا ما يتعارض مع الفقرة الثانية من الدليل الفلسفيّ، وهي أنّ الأدنى درجة لا يُمكن أنْ يُعطي الأعلى درجة؟
ب- أو يُراد بذلك أنّ البيضة لا تلد الفرخ، بل تُبرزه بعد أنْ كان كامناً فيه، لأنّ كلّ شيء يكمن فيه نقيضه. فالبيضة حينما كانت بيضة هي في الوقت نفسه فرخ دجاجة. ولكنْ من الواضح أنّ البيضة إذا كانت في الوقت نفسه فرخ دجاجة، فلا توجد هناك أيّ عمليّة نموّ أو تكامل عندما تُصبح البيضة دجاجة، لأنّ كلَّ ما وجد الآن كان موجوداً منذ البدء، تماماً كالشخص يُخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراء، لأنّ كلَّ ما بيده الآن من نقود كان في جيبه.
ج- أو يُراد بذلك أنّ البيضة نفسها تُعبّر عن ضدّين أو نقيضين مستقلّين، لكلٍّ منهما وجوده الخاص، فأحدهما: يتمثّل في النطفة الّتي سببها في داخل البيضة اللقاح، والآخر: سائر ما تحتويه البيضة من موادّ؟
وهذان الضدّان وحّدتهما معركة في داخل قشر البيضة، وأبرز ذلك الصراع انتصار أحد الضدّين وهو النطفة، فتحوّلت البيضة إلى فرخ دجاجة.
ولكنّ السؤال: هذا التناقض، أو الاندماج، أو التوحّد بين الضدّين ـ مهما تكن تسميته ـ فإنّه يؤديّ إلى نتيجة أكبر، إلى عملية نموّ، إلى شيء جديد يزيد على المجموع العدديّ لهما، فمن أين جاءت هذه الزيادة؟ فهل جاءت من الضدّين المتصارعين الفاقدين معاً لها، مع أنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، بحكم القضيّة الثانية من الدليل الفلسفيّ المتقدّم؟
الثالثة: ترى هذه الإجابة، أنّ الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من مصدر خارجيّ يتمتّع بكلِّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة، وإحساس، وفكر، وهو الله ربّ العالمين. وليس نموّ المادّة إلا تربية وتنمية يُمارسها ربّ العالمين بحكمته، وتدبيره، وربوبيّته: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾8.
وهذه هي الإجابة الوحيدة الّتي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أنْ تُعطي تفسيراً معقولاً لعمليّة النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب.
وبعد أنْ ثبت لدينا وجود الصانع الحكيم لهذا الكون والحياة من خلال الدليلين العلميّ (الاستقرائيّ) والفلسفيّ، فإنّنا نختم هذا المبحث مع مسألة عدالة هذا الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.
العدل الإلهيّ:
كلّنا نؤمن - بعقلنا الفطريّ البديهيّ - بقيم عامّة للسلوك، وهي القيَم الّتي تؤكِّد أنّ العدل حقٌّ وخير، والظلم باطلٌ وشرٌّ، وأنّ من يعدل في سلوكه جدير بالاحترام والمثوبة، ومن يظلم ويعتدي جدير بعكس ذلك.
هذه القيم العامّة للسلوك الّتي نُدركها بعقلنا الفطريّ البديهيّ، تنطبق تماماً على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، بل ويُحيط به، لأنّه هو الّذي وهبنا هذا العقل، وهو في الوقت نفسه بحكم قدرته الهائلة، وسيطرته الشاملة على الكون، ليس بحاجة إلى أيّ مساومة أو ما يُشابه ذلك. ومن هنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً.
إضافة إلى ذلك، فإنّ القيَم - السابقة الذكر - لا تدعو إلى صفات الخير وترفض صفات الشرّ فحسب، بل تُطالب - أيضاً - بالجزاء المناسب لكلٍّ منهم، أي العقل الفطريّ السليم يُدرك أنّ الظالم جدير بالمؤاخذة، وأنّ العادل جدير بالمثوبة.
وعلى ضوء ذلك، فإنّنا ما دمنا نؤمن بأنّ الله تعالى عادل مستقيم في سلوكه، بالتّالي فهو حتماً قادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً، أي يُجازي المحسن على إحسانه، وينتصف للمظلوم من ظالمه. ولكنْ ما نُلاحظه أنّ هذا الجزاء الإلهيّ كثيراً ما لا يتحقّق في هذه الحياة الدنيّا، مع أنّ الله تعالى قادرٌ على ذلك، إلا أنّ هذا ـ في الواقع ـ ما يُبرهن لنا حقيقة على وجود يوم مقبل للجزاء، يجد فيه كلّ من العادل الأمين والظالم الخاسر جزاءهما على أعمالهما في هذه الدنيا، وهذا هو يوم القيامة الّذي يُجسِّد كلّ تلك القيم المطلقة للسلوك، وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى.
ينطلق الفكر المادّيّ – الميكانيكيّ، في جوابه عن هذا السؤال، من نظرته الميكانيكيّة في تفسير الكون، والقائلة بأنّ العالَم الخارجيّ يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة، تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة، أي أنّ عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها لبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادّة، بالتّالي لا يحصل تطوّر جديد في المادّة، فالمادّة لا تنمو في وجودها، ولا تترقّى في تطوّرها، وإنّما تتجمّع وتتوزّع بطرق وأشكال مختلفة.
ولكنْ بالرغم من استناد ذلك الجواب إلى علم الميكانيك، وما قدّمه من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكيّة وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتياديّة على أساسها، إلّا أنّ استمرار تطوّر هذا العِلم في مجالات الحياة المختلفة أثبت بطلان الجواب المادّيّ الميكانيكيّ وتفسيره لكلّ حركات الكون تفسيراً ميكانيكيّاً. بل أكّد العِلم ما أدركه الإنسان بفطرته - منذ زمن بعيد - من أنّ تنوّع أشكال المادّة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى آخر، بل إلى ألوان من التطوّر النوعيّ والكيفيّ.
إذاً، فالجواب الإسلاميّ عن السؤال، هو ما يتطابق مع فطرة الإنسان، الّتي تؤمن بأنّ الأشكال المختلفة في الوجود هي عبارة عن درجات ومراحل من التكامل. فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادّة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّيّة وإنّما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجة من حياة النبات وهكذا.
السؤال الثاني: إذا كان الفارق (أو الاختلاف) بين أشكال الوجود في هذا الكون هو فارق نوعيّ وكيفيّ، بما يُعبّر عن وجود تطوّر ونموّ وزيادة في وجود هذه الأشكال، فمن أين جاءت هذه الزيادة الجديدة - في المادّة - وكيف ظهرت ما دام أنّ لكلِّ حادثة سبباً كما تقدّم؟
توجد بهذا الصدد ثلاث إجابات:
الأولى: أنّ هذه الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من المادّة نفسه، أيّ أنّ الشكل الأدنى من وجود المادّة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجة. ولكنّ هذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية من قضايا الدليل الفلسفيّ، الّذي يُقرِّر أنّ الشكل الأدنى درجة لا يُمكن أنْ يكون سبباً لما هو أكبر منه درجة، وأغنى منه محتوى من أشكال الوجود.
الثانية: أنّ هذه الإجابة ذهبت - أيضاً - إلى أنّ الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من المادّة نفسها، ولكنْ لا كما هي في الإجابة الأولى من الأدنى إلى الأعلى بما يتعارض مع القضيّة الثانية من الدليل الفلسفيّ، بل إنّ ذلك يتمّ على أساس أنّ كلَّ أشكال التطوّر ومحتوياته موجودة في المادّة منذ البدء، فمثلاً: الدجاجة موجودة في البيضة في وقت واحد، ويعني ذلك أنّ كلَّ شيء يحتوي على نقيضه - ضدّه - في أحشائه وهو في صراع مستمرّ مع هذا النقيض، وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخليّ، حتّى يبرز ويُحقّق تحوّلاً في المادّة، كالبيضة تنفجر في لحظة معيّنة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها، وعن هذا الطريق تتكامل المادّة باستمرار.
ولكنّ السؤال الّذي يرد هنا: ماذا يُقصد بالضبط من أنّ الشيء يحتوي على نقيضه أو ضدّه؟ وبالتحديد أيّ المعاني التّالية هو المقصود؟
أ- فهل يُراد بذلك أنّ الميّت(أي البيضة) يلد الحيّ (أي فرخ الدجاجة) ويسبغ عليه الحياة، وهذا ما يتعارض مع الفقرة الثانية من الدليل الفلسفيّ، وهي أنّ الأدنى درجة لا يُمكن أنْ يُعطي الأعلى درجة؟
ب- أو يُراد بذلك أنّ البيضة لا تلد الفرخ، بل تُبرزه بعد أنْ كان كامناً فيه، لأنّ كلّ شيء يكمن فيه نقيضه. فالبيضة حينما كانت بيضة هي في الوقت نفسه فرخ دجاجة. ولكنْ من الواضح أنّ البيضة إذا كانت في الوقت نفسه فرخ دجاجة، فلا توجد هناك أيّ عمليّة نموّ أو تكامل عندما تُصبح البيضة دجاجة، لأنّ كلَّ ما وجد الآن كان موجوداً منذ البدء، تماماً كالشخص يُخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراء، لأنّ كلَّ ما بيده الآن من نقود كان في جيبه.
ج- أو يُراد بذلك أنّ البيضة نفسها تُعبّر عن ضدّين أو نقيضين مستقلّين، لكلٍّ منهما وجوده الخاص، فأحدهما: يتمثّل في النطفة الّتي سببها في داخل البيضة اللقاح، والآخر: سائر ما تحتويه البيضة من موادّ؟
وهذان الضدّان وحّدتهما معركة في داخل قشر البيضة، وأبرز ذلك الصراع انتصار أحد الضدّين وهو النطفة، فتحوّلت البيضة إلى فرخ دجاجة.
ولكنّ السؤال: هذا التناقض، أو الاندماج، أو التوحّد بين الضدّين ـ مهما تكن تسميته ـ فإنّه يؤديّ إلى نتيجة أكبر، إلى عملية نموّ، إلى شيء جديد يزيد على المجموع العدديّ لهما، فمن أين جاءت هذه الزيادة؟ فهل جاءت من الضدّين المتصارعين الفاقدين معاً لها، مع أنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، بحكم القضيّة الثانية من الدليل الفلسفيّ المتقدّم؟
الثالثة: ترى هذه الإجابة، أنّ الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من مصدر خارجيّ يتمتّع بكلِّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة، وإحساس، وفكر، وهو الله ربّ العالمين. وليس نموّ المادّة إلا تربية وتنمية يُمارسها ربّ العالمين بحكمته، وتدبيره، وربوبيّته: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾8.
وهذه هي الإجابة الوحيدة الّتي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أنْ تُعطي تفسيراً معقولاً لعمليّة النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب.
وبعد أنْ ثبت لدينا وجود الصانع الحكيم لهذا الكون والحياة من خلال الدليلين العلميّ (الاستقرائيّ) والفلسفيّ، فإنّنا نختم هذا المبحث مع مسألة عدالة هذا الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.
العدل الإلهيّ:
كلّنا نؤمن - بعقلنا الفطريّ البديهيّ - بقيم عامّة للسلوك، وهي القيَم الّتي تؤكِّد أنّ العدل حقٌّ وخير، والظلم باطلٌ وشرٌّ، وأنّ من يعدل في سلوكه جدير بالاحترام والمثوبة، ومن يظلم ويعتدي جدير بعكس ذلك.
هذه القيم العامّة للسلوك الّتي نُدركها بعقلنا الفطريّ البديهيّ، تنطبق تماماً على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، بل ويُحيط به، لأنّه هو الّذي وهبنا هذا العقل، وهو في الوقت نفسه بحكم قدرته الهائلة، وسيطرته الشاملة على الكون، ليس بحاجة إلى أيّ مساومة أو ما يُشابه ذلك. ومن هنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً.
إضافة إلى ذلك، فإنّ القيَم - السابقة الذكر - لا تدعو إلى صفات الخير وترفض صفات الشرّ فحسب، بل تُطالب - أيضاً - بالجزاء المناسب لكلٍّ منهم، أي العقل الفطريّ السليم يُدرك أنّ الظالم جدير بالمؤاخذة، وأنّ العادل جدير بالمثوبة.
وعلى ضوء ذلك، فإنّنا ما دمنا نؤمن بأنّ الله تعالى عادل مستقيم في سلوكه، بالتّالي فهو حتماً قادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً، أي يُجازي المحسن على إحسانه، وينتصف للمظلوم من ظالمه. ولكنْ ما نُلاحظه أنّ هذا الجزاء الإلهيّ كثيراً ما لا يتحقّق في هذه الحياة الدنيّا، مع أنّ الله تعالى قادرٌ على ذلك، إلا أنّ هذا ـ في الواقع ـ ما يُبرهن لنا حقيقة على وجود يوم مقبل للجزاء، يجد فيه كلّ من العادل الأمين والظالم الخاسر جزاءهما على أعمالهما في هذه الدنيا، وهذا هو يوم القيامة الّذي يُجسِّد كلّ تلك القيم المطلقة للسلوك، وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى.
*المرسل، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- للمزيد من التفاصيل، يراجع كتاب: الأسس المنطقيّة للاستقراء لمؤلفه الشّهيد السّعيد محمّد باقر الصّدر قدس سره
2- سورة النحل، الآية 18
3-سورة فصلت، الآية 53
4-سورة البقرة، الآية 164
5-يقسم الدليل إلى ثلاثة أقسام: الدليل الفلسفيّ، الدليل الرياضيّ، الدليل العلميّ.
6-الدليل الرياضيّ الّذي يعتمد على مبدأ عدم التناقض، يحظى بثقة الجميع، كما سيأتي في بيان ذلك لاحقاً.
7-للمزيد من التفاصيل والتعمق يراجع كتاب: الأسس المنطقيّة للاستقراء، لمؤلّفه الشّهيد السّعيد السّيد محمّد باقر الصّدر قدس سره
8-سورة المؤمنون، الآية 12-14
2- سورة النحل، الآية 18
3-سورة فصلت، الآية 53
4-سورة البقرة، الآية 164
5-يقسم الدليل إلى ثلاثة أقسام: الدليل الفلسفيّ، الدليل الرياضيّ، الدليل العلميّ.
6-الدليل الرياضيّ الّذي يعتمد على مبدأ عدم التناقض، يحظى بثقة الجميع، كما سيأتي في بيان ذلك لاحقاً.
7-للمزيد من التفاصيل والتعمق يراجع كتاب: الأسس المنطقيّة للاستقراء، لمؤلّفه الشّهيد السّعيد السّيد محمّد باقر الصّدر قدس سره
8-سورة المؤمنون، الآية 12-14
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق